فصل: تفسير الآية رقم (95):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (95):

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)}
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} شروع في تقرير بعض أفاعيله تعالى العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى وقدرته ولطيف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد، وفي ذلك تنبيه على أن المقصود الأصلي من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله سبحانه. والفالق الموجد والمبدع كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك والحب معلوم. والنوى جمع نواة التمر كما في القاموس وغيره يؤنث ويذكر ويجمع على أنواء ونوى بضم النون وكسرها. وفسره الإمام بالشيء الموجود في داخل الثمرة بالمثلثة أعم من التمر بالمثناة وغيره، والمشهور أن النوى إذا أطلق فالمراد منه ما في القاموس وإذا أريد غيره قيد فيقال: نوى الخوخ ونوى الإجاص ونحو ذلك. وأصل الفلق الشق. وكان إطلاق الفالق على الموجد باعتبار أن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق فمتى أوجد الشيء تخيل الذهن أنه شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المبدع منه، وعن الحسن وقتادة والسدي أن المعنى شاق الحبة اليابسة ومخرج النبات منها وشاق النواة ومخرج النخل والشجر منها وعليه أكثر المفسرين ولعله الأولى. وفي ذلك دلالة على كمال القدرة لما فيه من العجائب التي تصدح أطيارها على أفنان الحكم وتطفح أنهارها في رياض الكرم. وعن مجاهد وأبي مالك أن المراد بالفلق الشق الذي بالحبوب وبالنوى أي أنه سبحانه خالقهما كذلك كما في قولك: ضيق فم الركية ووسع أسفلها. وضعف بأنه لا دلالة له على كمال القدرة كما في سابقه.
{يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو من النطفة. والحب والنوى، والجملة مستأنفة مبينة لما قبلها على ما عليه الأكثر ولذلك ترك العطف وقيل: خبر ثان ولم يعطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على عظمة الله تعالى: {وَمُخْرِجُ الميت} كالنطفة وأخويها {مِنَ الحى} كالحيوان وأخويه، وهذا عند بعض عطف على {فَالِقُ} لا على {يُخْرِجُ الحى} إلخ لأنه كما علمت بيان لما قبله وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه. واختار ابن المنير كونه معطوفًا على {يَخْرُجُ} قال: وقد وردا جميعًا بصيغة المضارع كثيرًا وهو دليل على أنهما توأمان مقترنان وهو يبعد القطع، فالوجه والله تعالى أعلم أن يقال: كان الأصل أن يؤتى بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله في الآية إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع وذلك إنما يتأتى بالمضارع دون اسم الفاعل والماضي {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] كيف عدل فيه عن الماضي المطابق لأنزل لذلك، وقوله:
بأني قد لقيت الغول يسعى ** بسهب كالصحيفة صحصحان

فآخذه وأضربه فخرت ** صريعًا لليدين وللجران

فإنه عدل فيه إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذهن السامع إلى ما لا يحصى كثرة، وهو إنما يجيء فيما تكون العناية فيه أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه وهو أيضًا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ثم القسم الآخر ناشئ عنه فكان الأول جديرًا بالتصوير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبدًا على القسم الآخر في الذكر حسب ترتبهما في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى المضارع وكل منهما يقدر بالآخر فلا جناح في عطفه عليه.
وقال الإمام في وجه ذلك الاختلاف: «إن لفظ الفعل يدل على أن الفاعل معتن بالفعل في كل حين وأوان، وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة، ويرشد إلى هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز من أن قوله سبحانه: {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماء} [فاطر: 3] قد ذكر فيه الرزق بلفظ الفعل لأنه يفيد أنه تعالى يرزقهم حالًا فحالًا وساعة فساعة، وقوله عز شأنه {وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] قد ذكر فيه الاسم ليفيد البقاء على تلك الحالة، وإذا ثبت ذلك يقال: لما كان الحي أشرف من الميت وجب أن يكون الإعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي، فلذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيهًا على أن الإعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الإعتناء بإيجاد الميت من الحي.
ثم العطف لاشتمال الكلام به على زيادة لا يضر بكون الجملة بيانًا لما تقدم كما لا يضر شمول الحي والميت في الجملة المعطوف عليها للحيوان والنبات فيه. وأيًا ما كان فلابد من القول بعموم المجاز أو الجمع بين المجاز والحقيقة على مذهب من يرى صحته إن قلنا: إن الحي حقيقة فيمن يكون موصوفًا بالحياة وهي صفة توجب صحة الإدراك والقدرة والميت حقيقة فيمن فارقته تلك الصفة أو نحو ذلك. وأن إطلاقه على نحو النبات والشجر الغض والحب والنوى مجاز. وبهذا يشعر كلام الإمام فإنه جعل ما نقل عن الزجاج أن المعنى يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي من الوجوه المجازية كالمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
{ذلكم} القادر العظيم الشأن الساطع البرهان هو {الله} الذات الواجب الوجود المستحق للعبادة وحده {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء لا سبيل إلى ذلك أصلًا. وتمسك الصاحب بن عباد بهذا على أن فعل العبد ليس مخلوقًا لله تعالى لأنه سبحانه لو خلق فيه الإفك لم يلق به عز شأنه أن يقول: {فأنى تُؤْفَكُونَ} وقد قدمنا الجواب على ذلك على أتم وجه فتذكر.

.تفسير الآية رقم (96):

{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}
{فَالِقُ الإصباح} خبر لمبتدأ محذوف أي هو فالق أو خبر آخر لإن. والإصباح بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح؛ قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** يصبح وما الإصباح منك بأمثل

وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال. وأنشد قوله:
أفنى رياحًا وبنى رياح ** تناسخ الإمساء والإصباح

بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسي وصبح. والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والضحاك وقال غير واحد: الشاق. واستشكل بأن الظاهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح. وأجيب بأن الصبح صبحان، صادق وهو المنتشر ضوؤه معترضًا بالأفق، وكاذب وهو ما يبدو مستطيلًا وأعلاه أضوأ من باقيه وتعقبه ظلمة. وعلى الأول: يراد فلقه عن بياض النهار أو يقال: في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الإصباح بالأصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور إنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرًا مملوءًا من الظلمة فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولًا من النور فيه. وعلى الثاني: فإيراد أنه سبحانه فالقه عن ظلمة آخر الليل وشاقه منه. وما ذكر من تقسيم الصبح إلى صادق وكاذب مما يشهد له العيان ولا يمتري فيه إثنان إلا أن في سبب ذلك كلامًا لأهل الهيئة حاصله أن الصبح وكذا الشفق استنارة في كرة البخار لتقارب الشمس من أفق المشرق وتباعدها عن أفق المغرب.
وقد تحقق أن كرة البخار عبارة عن هواء متكاثف بما فيه من الأجزاء الأرضية والمائية المتصاعدة من كرتيهما بتسخين الشمس وغيرها إياها وأن شكل ذلك الهواء شكل كرة محيطة بالأرض على مركزها وسطح مواز لسطحها المتساوي غاية ارتفاعها عن مركز الأرض في جميع النواحي المستلزم لكرويتها وأنها مختلفة القوام لأن ما كان منها أقرب إلى الأرض فهو أكثف مما بعد لأن الألطف يتصاعد ويتباعد أكثر من الأكثف ولكن لا يبلغ في التكاثف إلى حيث يحجب ما وراءه. وأن هذه الكرة تنتهي إلى حد لا تتجاوزه وهو من سطح الأرض أحد وخمسون ميلًا تقريبًا وأن للأرض ظلًا على هيئة مخروط قاعدته دائرة عليها تكاد تكون عظيمة وهي مواجهة للشمس ورأسه في مقابلها. وتنقسم الأرض بهذه القاعدة إلى قسمين: أحدهما أكبر مستضيء مواجه للشمس والآخر مظلم مقابل لها، ويتحرك الضياء والظلمة على سطح الأرض في يوم بليلته دورة واحدة كعلمين متقابلين أحدهما أبيض والآخر أسود. وأن شعاع الشمس محيط خروط الظل من جميع جوانبه ومنبث في جميع الأفلاك سوى مقدار يسير من فلك القمر وفلك عطارد وقع في مخروط ظل الأرض لكن الأفلاك لكونها مشعة في الغاية ينفذ فيها الشعاع ولاينعكس عنها فلذلك لا نراها مضيئة.
وكذا الهواء الصافي المحيط بكرة البخار لا يقبل ضوءًا.
وأما كرة البخار فهي مختلفة القوام لأن ما قرب منها إلى الأرض أكثف مما بعد والأكثف أقبل للاستضاءة فالكثيف الخشن باختلاط الهيئات الكثيرة من سطح مخروط الظل قابل للضوء وأن النهار مدة كون ذلك المخروط تحت الأفق والليل مدة كونه فوقه. وحيث تحقق كل ذلك يقال: إذا ازداد قرب الشمس من شرقي الأفق ازداد ميل المخروط إلى غربيه ولا يزال كذلك حتى يرى الشعاع المحيط به وأول ما يرى هو الأقرب إلى موضع الناظر وهو خط يخرج من بصره في سطح دائرة سمتية تمر ركز الشمس عمودًا على الخط المماس للشمس والأرض وهو الذي في سطح الفصل المشترك بين الشعاع والظل فيرى الضوء أولًا مرتفعًا عن الأفق عند موقع العمود مستطيلًا كخط مستقيم وما بينه وبين الأفق يرى مظلمًا لبعده وإن كان مستنيرًا في الواقع ولكثافة الهواء عند الأفق مدخل في ذلك أيضًا وهو الصبح الكاذب، ثم إذا قربت من الأفق الشرقي رؤى الضوء معترضًا منبسطًا يزداد لحظة فلحظة وينمحي الأول بهذا الضياء القوى كما ينمحي ضياء المشاعل والكواكب في ضوء الشمس فيخيل أن الأول قد عدم وهو الصبح الصادق.
وتوضيح ما ذكر على ما في التذكرة و«شرح سيد المحققين» أنه يتوهم لبيان ذلك سطح يمر ركز الشمس والأرض وبسهم المخروط ومركز قاعدته فيحدث مثلث حاد الزوايا قاعدته على الأفق وضلعاه على سطح المخروط. أما حدوث المثلث فلما تقرر أنه إذا مر سطح مستو بسهم المخروط ومركز قاعدته أحدث فيه مثلثًا. وأما حدة الزوايا فلأن رأس المخروط في نصف الليل يكون على دائرة نصف النهار فوق الأرض. وحينئذ إما أن يكون المخروط قائمًا على سطح الأفق. وذلك إذا كانت الشمس على سمت القدم أو مائلًا إلى الشمال أو الجنوب مع تساوي بعده عن جهة المشرق والمغرب. وذلك إذا لم تكن الشمس على سمت القدم.
وأيًا ما كان فذلك السطح المفروض ممتد فيما بين الخافقين أما على التقدير الأول فظاهر. وأما على التقدير الثاني فلتساوي بعد رأس المخروط عن جانبي المشرق والمغرب فيكون زوايتا قاعدة المثلث حادتين لوجوب تساويهما وامتناع وقوع قائمتين أو منفرجتين في مثلث. وإذا مال رأس المخروط عن نصف النهار المغرب فوق الأرض بسبب انتقال الشمس عنه إلى جانب المشرق تحت الأرض تضايقت الزاوية الشرقية من ذلك المثلث فتصير أحد مما كانت واتسعت الزاوية الغربية حتى تصير منفرجة لكن المقصود لا يختلف. ولا شك أن الأقرب من الضلع الذي يلي الشمس إلى الناظر يكون موقع العمود الخارج من النظر الواقع على ذلك الضلع لا موضع اتصال الضلع بالأفق.
وذلك أنه إذا خرج من البصر إلى الضلع الشرقي عمود فلا يمكن أن يقع على موضع اتصال هذا الضلع بالأفق وإلا انطبقت القائمة على بعض الحادة ولا أن يقع تحت الأفق بأن يقطع العمود قاعدة المثلث ويصل إلى الضلع المذكور بعد إخراجه تحته وإلا لزم في المثلث الحادث تحت الأفق من القدر المخرج من بعض القاعدة وبعض العمود قائمة ومنفرجة ولا أن يقع في جهة رأس المثلث على موضع اتصال أحد ضلعيه بالآخر ولا خارجًا عنه في تلك الجهة لما ذكرنا بعينه فوجب أن يقع داخل المثلث فيما بين طرفي الضلع الشرقي وقد تبين أن موضعه أقرب إلى الناظر من موضع اتصاله بالأفق. ولا شك في أن ما وقع من هذا الضلع فيما كثف من كرة البخار يكون مستنيرًا بتمامه حال قرب الشمس من أفق المشرق إلا أن ما كان أقرب منه إلى الناظر يكون أصدق رؤية. وهو موقع العمود ومن هنا يتحقق الصادق والكاذب. انتهى كلامهم.
والإمام الرازي أنكر كون الصبح الكاذب من أثر قرص الشمس وإنما هو بتخليق الله تعالى ابتداء قال. لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع الذي يكون فلك الدائرة أفقًا لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم. وفي ذلك الموضع أضاء نصف كرة الأرض. وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدنا وذلك الضوء يكون منتشرًا مستطيرًا في جمع أجزاء الجو ويجب أن يزداد لحظة فلحظة. وحينئذ يمتنع أن يكون الصبح الأول خطًا مستطيلًا فحيث كان كذلك علم أنه ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره. ويفهم من كلامه أيضًا أن الصبح الثاني كالصبح الأول ليس إلا بتخليق الفاعل المختار ويمتنع أن يكون من تأثير قرص الشمس، وبين ذلك بأن من المقدمات المتفق عليها أن المضيء، شمسًا كان أو غيره لا يقع ضوؤه إلا على الجرم المقابل له دون غير المقابل والشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلًا لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير القرص، ثم قال فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل لها وذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصير ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سببًا لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا.
وعلى هذا عول أبو علي بن الهيثم في «المناظر» فالجواب: أن هذا باطل من وجهين، الأول: أن الهواء شفاف عديم اللون فلا يقبل النور واللون في ذاته.
وما كان كذلك يمتنع أن ينعكس منه النور إلى غيره فيمتنع أن يصير ضوؤه سببًا لضوء هواء آخر مقابل له. فإن قالوا فلم لا يجوز أن يقال إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخنة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم يفيض على الهواء المقابل له؟ فنقول: لو كان كذلك لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى وليس الأمر كذلك بل بالعكس، الثاني: أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين. وإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام، وإذا ثبت هذا فنقول. إذا وصل مركز الشمس إلى دئرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العالم هناك. والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة، وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محازيًا لهواء الربع الذي هو الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل النور في هذا الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء هذا الربع في غاية الإنارة حينئذ وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم انتهى المراد منه. ولا أراه أتى بشيء يتبلج به صبح هذا المطلب كما لا يخفى على من أحاط خبرًا بما قدمناه.
وذكر أفضل المتأخرين العلامة أحمد بن حجر الهيثمي أن لأهل الهيئة في تحقيق الصبح الكاذب كلامًا طويلًا مبنيًا على الحدس المبني على قاعدة الحكماء الباطلة كمنع الخرق والالتئام على أنه لا يفي ببيان سبب كون أعلاه أضوأ مع أنه أبعد من أسفله عن مستمده وهو الشمس ولا ببيان سبب انعدامه بالكلية حتى تعقبه ظلمة كما صرح به الأئمة وقدروها بساعة. والظاهر أن مرادهم مطلق الزمن لأنها تطول تارة وتقصر أخرى وهذا شأن الساعات الزمانية المسماة بالمعوجة ويقابلونها بالساعات المستوية المقدر كل منها دائمًا بخمس عشرة درجة، وزعم بعض أهل الهيئة عدم انعدامه وإنما يتناقص حتى ينغمر في الصادق وقد تقدم لك ذلك فيما نقلناه لك عنهم ولعله بحسب التقدير لا الحس، وفي خبر مسلم «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير أي ينتشر ذلك العمود في نواحي الأفق» ويؤخذ من تسميته عارضًا للثاني شيئان، أحدهما: أنه يعرض للشعاع الناشيء عنه الصبح، الثاني: انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله سبحانه: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة، والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره، وهذا لكون كلام الصادق قد يدل عليه ولانبائه عن سبب طوله وإضاءة أعلاه واختلاف زمنه وانعدامه بالكلية الموافق للحس أولى مما ذكره أهل الهيئة القاصر عن كل ذلك. ثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم أشار بالعارض إلى أن المقصود بالذات هو الصادق وأن الكاذب إنما قصد بطريق العرضية لينبه الناس به لقرب ذلك فينتبهوا ليدركوا فضيلة أول الوقت لاشتغالهم بالنوم الذي لولا هذه العلامة لمنعهم إدراك أول الوقت، فالحاصل أنه نور يبرزه الله تعالى من ذلك الشعاع أو يخلقه حينئذ علامة على قرب الصبح ومخالفًا له في الشكل ليحصل التمييز وتتضح العلامة العارضة من المعلم عليه المقصود فتأمل ذلك فإنه غريب مهم.
وفي حديث عند أحمد «ليس الفجر الأبيض المستطيل في الأفق ولكن الفجر الأحمر المعترض» وفيه شاهد لما ذكر آخر. ومما يؤيد ما أشير إليه من الكوة ما أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن للشمس ثلثمائة كوة تطلع كل يوم من كوة فلا بدع أنها عند قربها من تلك الكوة ينحبس شعاعها ثم يتنفس كما مر. وللقرافي المالكي. وغيره كالأصبحي من الشافعية فيه كلام يوضحه ويبين صحة ما ذكر من الكوات ويوافق الاستشكال لكونه يظهر ثم يغيب. وحاصله وإن كان فيه طول لمس الحاجة إليه أنه بياض يطلع قبل الفجر ثم يذهب عند أكثر الأبصار دون الراصد المجد القوي النظر.
وذكر ابن بشير المالكي أنه من نور الشمس إذا قربت من الأفق فإذا ظهرت أنست به الأبصار فيظهر له أنه غاب وليس كذلك. ونقل الأصبحي أن بعضهم ذكر أنه يذهب بعد طلوعه ويعود مكانه ليلًا وهو كثير من الشافعية، وإن أبا جعفر البصري بعد أن عرفه بأنه عند بقاء نحو ساعتين يطلع مستطيلًا إلى نحو ربع السماء كأنه عمود ورا لم ير إذا كان الجو نقيًا شتاء وأبين ما يكون إذا كان الجو كدرًا صيفًا أعلاه دقيق وأسفله واسع ولا ينافي هذا ما تقدم من أن أعلاه أضوأ لأن ذلك عند أول الطلوع وهذا عند مزيد قربه من الصادق وتحته سواد ثم بياض ثم يظهر بياض يغشى ذلك كله ثم يعترض رده بأنه رصده نحو خمسين سنة فلم يره غاب وإنما ينحدر ليلتقي مع المعترض في السواد ويصيران فجرًا واحدًا. وزعم غيبته ثم عوده وهم أو رآه يختلف باختلاف الفصول فظنه يذهب، وبعض المؤقتين يقول: هو المجرة إذا كان الفجر بالسعود، ويلزمه أن لا يوجد إلا نحو شهرين في السنة قال القرافي: وقال آخرون هو شعاع يخرج من طباق بجبل قاف ثم أبطله بأن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما يرده ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منها:«أن وراء أرضنا بحرًا محيطًا ثم جبلًا يقال له قاف ثم أرضًا ثم بحرًا ثم جبلًا» وهكذا حتى عد سبعًا من كل، وأخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من ذمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء، وعن مجاهد مثله، وكما اندفع بذلك قوله: لا وجود له اندفع قوله إثره: ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه لأنه إن أراد بالدليل مطلق الأمارة فهذا عليه أدلة أو الأمارة العقلية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي، ثم نقل عن القرافي عن أهل الهيئة أنه يظهر ثم يخفى دائمًا، ثم استشكله وأطال في جوابه بما لا يتضح إلا لمن أتقن علمي الهندسة والمناظر فأولى منه أن يختلف باختلاف النظر لاختلافه باختلاف الفصول والكيفيات العارضة لمحله فقد يدق في بعض ذلك حتى لا يرى أصلًا وحينئذ فهذا عذر من عبر بأنه يغيب ثم تعقبه ظلمة، هذا ولا يخفى أن القول بحدوث ضوء الصبح جرد خلق الله تعالى لا عن سبب عادي كما يشير إليه كلام الإمام أهون من القول بأنه من شعاع يخرج من طباق جبل قاف. والقول بخروج الشعاع من هذا الطباق أهون من القول بخروج الشمس التي هي على ما بين في الأجرام مائة وستة وستون مثلًا للأرض مع كسر تقدم على ما هو المشهور أو ثلاثمائة وستة وعشرون مثلًا لها على ما قاله غياث الدين جمشيد الكاشي في رسالته سلم السماء أو ما يقرب من ذلك على ما في بعض الروايات من كوة من جبل محيط بالأرض.
والخبر في ذلك إن صح وقلنا: إن له حكم المرفوع مما ينبغي تأويله وباب التأويل أوسع من تلك الكوة فإن كثيرًا من الناس قد قطعوا دائرة الأرض على مدار السرطان مرارًا ولم يجدوا أثرًا لهذا الجبل المحيط الشامخ. وإثبات سبعة جبال وسبعة أبحر على الوجه السابق مما لا يخفى ما فيه أيضًا. وكون الله تعالى لا يعجزه شيء مما لا يشك فيه إلا ملحد لكن الكلام في وقوع ما ذكر في الخارج. والذي تميل إليه قلوب كثير من الناس في أمر الصبح ما ذكره أهل الهيئة.
وقد بين أرسطرخس في الشكل الثاني من «كتابه في جرم النيرين» أن الكرة إذا اقتبست الضوء من كرة أعظم منها كان المضيء منها أعظم من نصفها.
وقد بين أيضًا في الشكل الأول من ذلك الكتاب أن كل كرتين مختلفتين أمكن أن يحيط بهما مخروط مستدير رأسه يلي أصغرهما ويكون المخروط مماسًا لكل منهما على محيط دائرة، ولا شك أنه محيط بالشمس والأرض مخروط مؤلف من خطوط شعاعية رأسه يلي الأرض فيكون هذا المخروط مماسًا للأرض على دائرة فاصلة بين المضيء والمظلم منها وهي دائرة صغيرة لأن الجزء المضيء من الأرض أصغر.
وقد حققوا أن المستنير من الهواء كرة البخار سوى ما دخل في ظل مخروط الأرض وهي مستنيرة أبدًا لكثافتها وإحاطة أشعة الشمس بها لكنها لا ترى في الليل لبعدها عن البصر وإن سهم المخروط أبدًا في مقابلة جرم الشمس كما أشرنا إليه. ففي منتصف الليل يكون على دائرة نصف النهار وبعد ذلك يميل إلى جانب الغروب لحظة فلحظة إلى أن يرى البياض في جانب المشرق على ما تقدم تفصيله وعلى هذا لا يلزم في الصورة التي ذكرها الإمام من مجاوزة مركز الشمس دائرة نصف الليل وطلوعها على أولئك الأقوام. واستنارة نصف العالم عندهم استنارة الربع الشرقي عندنا لاختلاف الوضع كما لا يخفى على المتأمل، والتزام القول بالكروية والمخروط ونحو ذلك مما ذكره أهل الهيئة لا بأس به، نعم اعتقاد صحة ما يقولونه مما علم خلافه من الدين بالضرورة أو علم بدليل قطعي كفر أو ضلال فتدبر. وقرئ {فَالِقُ} بالنصب على المدح. وقرأ النخعي {فَالِقُ الإصباح}.
{وَجَعَلَ اليل سَكَنًا} أي يسكن إليه من يتعب بالنهار ويستأنس به لاسترواحه فيه وكل ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسًا به واسترواحًا إليه من زوج أو حبيب يقال له: سكن، ومنه قيل للنار: سكن لأنه يستأنس بها ولذا سموها مؤنسة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن المعنى يسكن فيه كل طير ودابة وروي نحوه عن ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم، فالمراد حينئذ جعل الليل مسكونًا فيه أخذا له من السكون أي الهدوء والاستقرار كما في قوله تعالى: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: 67] وقرأ سائر السبعة إلا الكوفيين {جَاعِلِ} بالرفع. وقرئ شاذًا بالنصب و{اليل} فيهما مجرور بالإضافة، ونصب {سَكَنًا} عند كثير بفعل دل عليه هذا الوصف لا به لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه عنى الحال أو الاستقبال وهو هنا عنى الماضي كما يشهد به قراءة {جَعَلَ}.
وجوز الكسائي وبعض الكوفيين عمله عنى الماضي مطلقًا حملًا له على الفعل الذي تضمن معناه. وبعضهم جوز عمله كذلك إذا دخلت عليه أل. وآخرون جوزوا عمله في الثاني إذا أضيف إلى الأول لشبهه بالمعرف باللام، وعلى هذا والأول لا يحتاج إلى تقدير فعل بل يكون الناصب هو الوصف، واختار بعضهم كونه الناصب أيضًا لكن باعتبار أن المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المختلفة لا الزمان الماضي فقط ولا يجري على هذا مجرى الصفة المشبهة لأن ذلك كما قال بعض المحققين فيما قصد به الاستمرار مشروط باشتهار الوصف بذلك الاستعمال وشيوعه فيه ونصبه في قراءتنا على أنه مفعول ثان لجعل.
وجوز أن يكون {جَعَلَ} عنى أحدث المتعدي لواحد فيكون نصبًا على الحال.
{والشمس والقمر} معطوفان على {اليل} وعلى قراءة من جره يكون نصبهما بفعل المقدر الناصب لسكنًا أو بآخر مثله، وقيل: بالعطف على محل {اليل} المجرور فإن إضافة الوصف إليه غير حقيقية إذا لم ينظر فيه إلى المضي. وقرئ بالجر وهو ظاهر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان {حُسْبَانًا} أي على أدوار مختلفة يحسب فيها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات أو محسوبان حسبانًا. والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وهذا هو الأصل المسموع في نحو ذلك وما سواه وارد على خلاف القياس كما قيل. وعن أبي الهيثم أن {حُسْبَانًا} جمع حساب مثل ركبان وركاب وشهبان وشهاب؛ وفي إرادته هنا بعد.
{ذلك} إشارة إلى جعلهما كذلك. وقال الطبرسي: «إلى ما تقدم من فلق الإصابح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا»، والجمهور على الأول وهو الظاهر، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو منزلة المشار إليه وبعد منزلته أي ذلك التسيير البديع الشأن {تَقْدِيرُ العزيز} أي الغالب القاهر الذي لا يستعصي عليه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص {العليم} المبالغ في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المصالح المعاشية والمعادية.